فصل: الفصل الرابع والثلاثون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل الرابع والثلاثون:

إخواني، رحيل من رحل عنا نذير لنا عنا، وما جرى على من تقدمنا وعظ لنا.
للشريف الرضي:
ما أسرعَ الأيامَ في طيّنا ** تمضي علينا ثم تمضي بنا

في كل يوم أملٌ قد نأى ** مرامُهُ عن أجل قد دنا

أنذرنا الدهرُ وما نرعوي ** كأنما الدهر سوانا عنا

تعاشيًا والموت في جده ** ما أوضح الأمرَ وما أبَيْنا

والناسُ كالأجمالِ قد قُرِّبتْ ** تنتظر الحيَّ لأن يظعنا

تدنو إلى العشب ومن خلفها ** مقامرٌ يطردها بالقنا

أين الأُولى شادوا مبانيهم ** تهدّموا قبل انهدامِ البنا

لا مُعدِمٌ يحميه إعدامُه ** ولا يقي نفسَ الغنيِّ الغِنى

كيف دفاعُ المرء أحداثها ** فردًا وأقرانُ الليالي ثِنى

حط رجالٌ وركبنا الذُّرى ** وعُقبةُ السير لمن بعدنا

والحازم الرأي الذي يَغتَذي ** مُستقلعًا ينذرُ مستوطنا

لا يأمنُ الدهرَ على غِرَّةٍ ** وعزّ ليث الغاب أن يؤمنا

كم غارسٍ أمّل في غرسه ** فاعجل المقدار أن يُجتنى

ما هذا التقصير في العمر القصير، ما هذا الزهو يا من إلى البلى يصير، كم فرق الموت أميرة أمير؟، كم أزار الألحاد من وزير؟، وسوى في القبور بين من هجر وزير، أين الأبطال الذين خاطرهم خطير، طال ما اقتتلوا، حتى كسروا القنا على القناطير، تالله لقد أمسوا حتى أصبحت خيل الموت تعثي وتغير، ونزلوا لحدًا كبيرًا غير كبير، ورأوا كل منكر من منكر وكل نكير من نكير، فهم مفترقون في القبور، فإذا اجتمعوا بنفخة الصور، عاد شراب الفراق قد أدير {فريقٌ في الجنّةِ وفريقٌ في السّعير}.
يا غافلًا والموت يسعى في طلبه، يا مشغولًا بلهوه مفتونًا بلعبه، يا مشتريًا راحة تفنى بطول تعبه، أما عللت مريضًا ورأيت كرب كربه، أما شيعت ملكًا فرجعت إلى سلبه، أما تخلى عن ماله وتخلى بمكتسبه، أنفعه غلوّ عزّه أو علوّ نسبه، لقد ناجاك قبره وناداك أمره، فانتبه، ولقد ضرّه هواه، فلا تلهج أنت به، لا تغرنك السلامة فمع الخواطي سهم صائب.
نظر شاب إلى شيخ ضعيف الحركة فقال: يا شيخ، من قيدك؟ فقال: الذي خلفته يفتل قيدك.
من أخطأته سهام الموت قيده ** طول السنين فلا لهو ولا غزل

وضاق من نفسه ما كان متسعًا ** حتى الرجاء وحتى العزم والأمل

الشباب باكورة الحياة، والشيب رداء الردى، إذا قرع المرء باب الكهولة فقد استأذن على البلا، يا رهين الإثم على العقوبة، ليس لك من يستفكك إلا التوبة، المنطع في قيد يتلقى الحاج منكس الرأس، رب خجلة تمت الناقص، كان بعض الأشياخ يقول: إلهي، من عادة الملوك، أنهم إذا كبر لهم مملوك أعتقوه، وقد كبرت فأعتقني. وقف أعجمي عند الكعبة، والناس يدعون وهو ساكت، ثم اخذ بلحيته فرفعها، وقال: يا خداه شيخ كبير.
لما أتونا والشيب شافعهم ** وقد توالى عليهم الخجل

قلنا لتلك الصحائف انقلبي ** بيضًا فإن الشيوخ قد عقلوا

يا معاشر الشباب انتبهوا، القوى في التقوى، فلو قد حل المشيب حل التركيب، إذا هلك أمير الشباب وقع الشتات في العسكر، الشباب رياض والشيب قاع قفر، فاستصحبوا الزاد قبل دخول الفلاة.
يا قومنا، الفوائد فوايت، كف من تبذير يؤذي، فكيف ببيذر من رعونة؟، إذا كانت القلوب عقمًا عن الفكر، واتفقت عنة الفهم فلا وجه لنسل الفضائل، الخوف ذكر والرجاء أنثى ومخنث البطالة إلى الإناث أميل. من زرع بذر العمل في أرجاء الرجا ولم تقع عليه شمس الحذر جاءت ثماره فجة. الجاهل ينام على فراش الأمن فيثقل نومه، فتكثر أحلام أمانيه، والعالم يضطجع على مهاد الخوف وحارس اليقظة يوقظه، من فهم معنى الوجود علم عزة النجاة. النفس طائر قد أرسل من عبادان التعبد محملًا كتاب الأمانة إلى دار الملك والعدو قد نصب له صنوف الأشراك، يلوح في ضمنها الحب المحبوب، فإن تم كيده فهو صيده، وإن خبر الخبر عبر، يا أطيار الفهوم احذري مراعي الهموم فثم عقبان التلف، ومن نجا منها بعد المحاربة أفلت مكسور الجناح، واعجبًا لبلبل الفطنة كيف اغتر بفخ الفتنة.
للشريف الرضي:
يا قلب كيف علقت في أشراكهم ** ولقد عهدتك تُفلِتُ الأشراكا

لا تشكونَ إليّ وَجدًا بعدها ** هذا الذي جرَّتْ عليكَ يداكا

من حدق بصره إلى طرف الدنيا طرفت عينه. من أصغى إلى حديث الهوى أورثه الصمم عن النصائح. خست همة فرعون فاستعظم الحقير {أليسَ لي مُلكُ مِصر} يا دني النفس حمارك ينهق من كف شعير يراه، الدنيا كلها كجناح بعوضة فما نسبة مصر إليها. صبي الفهم يشغله لون الصدفة والمتيقظ يرى الدرة. يا هذا، إذا لاحت لك شهوة فقف متدبرًا عواقبها وقد بردت حرارة الهوى فبين النجاة والهلاك فواق. واعجبًا أنفقت المال المسروق وبقي القطع:
أبكي زللي وأشتكي آثامي ** في سفك دمي تقدمت أقدامي

ما أبصرت إلا والبلى قدامي ** ما أسرع ما أصاب قلبي الرامي

ضر والله التخليط آدم، ونفعت الحمية يوسف، ملك هواه فملك زليخا، أمرضها حبه فأرادت تناول مقصودها في زمان الحمية فصاح لسان طبه {معاذ الله} فخلطت في بحران المرض {ما جزاء من أرادَ بأهلكَ سوءًا إلاّ أن يُسْجَنَ} فلما صح الذهن قالت: {الآنَ حصحصَ الحَقُّ}. لما نظر يوسف في عواقب الذنب ونهاية الصبر فكف الكف اطلع بتعليم التأويل على عواقب الرؤيا. دخل اليوم موسى وعظى إلى مدينة مدين قلبك فوجد فيها رجلين يقتتلان، القلب والهوى، فاستغاثه الذي من شيعته وهو القلب على الذي من عدوه وهو الهوى، فوكزه موسى فقضى عليه، فكان قتل الهوى سببًا للخروج من قصر مصر الغفلة إلى شعب شعيب اليقظة، فالآن يناديك لسان المعاملة، هل لك في بلوغ عرضك على أن تأجرني، فإن وفيت انقلبت إلى لذاتك مسرورًا، واسترجع لك التكليم على طور الجنة، فإن صحبت فرعون الهوى غرقت بعبورك يوم اليم.

.الفصل الخامس والثلاثون:

يا هذا، إنما خلقت الدنيا لتجوزها لا لتحوزها، ولتعبرها لا لتعمرها، فاقتل هواك المايل إليها، واقبل نصحي لا تعول عليها.
لورقة بن نوفل:
لا شيء فيما ترى تبقى بشاشته ** يبقى الإله ويؤدي المال والولد

لم تغن عن هرمز يومًا خزائنه ** والخلد قد حاولتْ عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح له ** والإنس والجنّ فيما بينها تردُ

أين الملوك التي كانت نوافلها ** من كل أوب إليها وافدٌ يفد

حوضٌ هنالك مورودٌ بلا كذبٍ ** لا بدّ من رده يومًا كما وردوا

الدنيا مزرعة النوائب ومشرعة المصائب، ومفرقة المجامع ومجرية المدامع. كم سلبت أقوامًا أقوى ما كانوا، وبانت أحلى ما كانت أحلامًا فبانوا، ففكر في أهل القصور والممالك، كيف مزقوا بكف المهالك ثم عد بالنظر في حالك، لعله يتجلى القلب الحالك. إن لذات الدنيا لفوارك، وإن موج بلائها لمتدارك، كم حج كعبتها قاصد فقتلته قبل المناسك، كم علا ذروتها مغرور فإذا به تحت السنابك، كم غرت غرًا فما استقر، حتى صيد باشك، خلها واطلب خلة ذات سرور وسرر وأرائك، تالله ما طيب العيش إلا هنالك. أخواني، ما قعودنا وقد سار الركب، ما أرى النية الآنية، يا مسافرين من عزم تزود، يا راحلين بلا رواحل وطنوا على الانقطاع، ليت المحترز نجا فكيف المهمل؟، يا أقدام الصبر تحملي فقد بقي القليل، تذكري حلاوة الدعة يهن عليك مر السرى، قد علمت أين المنزل، فاحدلها تسير.
للمهيار:
تغنَّ بالجرعاء يا سائقها ** فإن ونت شيئًا فزدها الأبرقا

واغنَ عن السياطِ في أرجوزة ** بحاجرٍ ترَ السهامَ المُرقا

واستقبال الريح الصبا بخُطمها ** تجدْ سُرى ما وجدتْ منتسقا

إن لها عند الحمى وأهلهِ ** تعلقًا من حبها وعلقا

وكل ما تزجره حداتُها ** رعى الحمى ربُّ الغمام وسقى

حواملا منها همومًا ثقُلتْ ** وانفسًا لم تبق إلا رمَقا

تحملنا وإن عرين قصَبًا ** وإن دمين أذرعًا وأسوقا

دام عليها الليلُ حتى أصبحت ** تحسب فجرَ ذاتِ عرقٍ شفقا

عرِّجْ على الوادي فقل عن كبدي ** ما شئت للبان الجوى والحُرَقا

الجنة ترضى منك بالزهد، والنار تندفع عنك بترك الذنب، والمحبة لا تقع إلا بالروح.
إنّ سلطان حبه ** قال لا أقبل الرشا

ما سلك الخليل طريقًا أطيب من الفلاة التي دخلها، لما خرج من كفه المنجنيق، زيارة تسعى، فيها أقدام الرضا على أرض الشوق، شابهت ليلة (فزجني في النور، وقال ها أنت وربك).
زرناك شوقًا ولو أن النوى بسطت ** فرش للفلا بيننا جمرًا لزرناك

رآه جبريل وقد ودع بلد العادة، فظن ضعف أقدام المتوكل فعرض عليه زاد «ألك حاجة» فرده بأنفة «أما إليك فلا» قال فسل مولاك، قال: «علمه بحالي يغنيني عن سؤالي».
تملكوا واحتكموا ** وصار قلبي لهم

تصرفوا في ملكهم ** فلا يقال ظلموا

إن وصلوا محبهم ** أو قطعوا لهم هم

يا أرض سلع أخبري ** وحدثيني عنهم

تبكيهم أرضى منى ** وتشتكيهم زمزم

يا ليت شعري إذ غوا ** أأنجدوا أم اتهموا

ما ضرهم حين سروا ** لو وقفوا فسلّموا

أبدان المحبين عندكم وقلوبهم عند الحبيب، طرق طارق باب أبي يزيد فقال: ها هنا أبو يزيد؟ فصاح من داخل الدار: أبو يزيد يطلب أبا يزيد فما يجده.
للمهيار:
وبجرعاءِ الحمى قلبي فعج ** بالحمى واقرأ على قلبي السلاما

وترجّلْ وتحدّثْ عجَبًا ** أن قلبًا سار عن جسمٍ أقاما

قل لجيران الغضا آهٍ على ** طيب عيشٍ بالغضا لو كان داما

حملوا ريحَ الصبا نشركُمُ ** قبلَ أن تحملَ شيحًا وتماما

وابعثوا لي بالكرى طيفكم ** إن أذنتم لعيوني أن تناما

بلغت بالقوم المحبة إلى استحلاء البلى، فوجدوا في التعذيب عذوبة لعلمهم أنه مراد الحبيب.
إرضاء أسخط أو أرضي تلونه ** وكل ما يفعل المحبوب محبوب

ضنى سويد بن مثعبة، على فراشه، فكان يقول: والله ما أحب أن الله نقصني منه قلامة ظفر.
تعجبوا من تمني القلب مؤلمه ** وما دروا أنه خلوٌ من الألم

أمر الحجاج بصلب ما هان العابد، فرفع على خشبة وهو يسبح ويهلل ويعقد بيده حتى بلغ تسعًا وعشرين فبقي شهرًا بعد موته، ويده على ذلك العقد مضمومة.
لتحشرن عظامي بعد ما بليت ** يوم الحساب وفيها حبكم علق

مروا على مجذوم قد مزقه الجذام، فقالوا له: لو تداويت، فقال: لو قطعني إربًا إربًا ما ازددت له إلا حبًا.
إن كان جيرانُ الغضى ** رضوا بقتلي فرضا

والله لا كنت لما ** يهوى الحبيب مبغضا

صرت لهم عبدًا وما ** للعبد أن يعترضا

هم قلّبوا قلبي من ** الشوق على جمر الغضا

يا ليت أيام الحمى ** يعود منها ما مضى

من لمريض لا يرى ** إلا الطبيب الممرضا

كان الشبلي يقول: أحبك الناس لنعمائك وأنا أحبك لبلائك.
من لقتيل الحب لو ** ردّ عليه القاتلُ

يجرحه النّبلُ ويهوى ** أن يعود النابل

قلبهم الزهد في قفر الفقر على أكف الصبر فقلع أوداج أغراضهم بسكين المسكنة، والبلاء ينادي أتصبرون؟ والعزم يجيب: لا ضير، سقاهم رحيق القرب فأورثهم حريق الحب فغابوا بالسكر عن روية النفس فعربدوا على رسم الجسم وهاموا في فلوات الوجد يستأنسون بالحمام والوحش.
يا منية القلب ما جيدي بمنعطف ** إلى سواكم ولا حبلي بمنقاد

لولا المحبة ما استعملت بارقة ** ولا سألت حمام الدوح إسعادي

ولا وقفت على الوادي أسائله ** بالدمع حتى رثى لي ساكن الوادي